کد مطلب:167542 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:277
استشهاد الإمام الحسین
ولما قتل أصحابه وأهل بیته ولم یبق أحد عزم علی لقاء الله، فدعی ببردة رسول الله فالتحف بها فأفرغ علیها درعه، وتقلّد سیفه واستوی علی متن جواده، ثم توجّه نحو القوم وقال: ویلكم علی مَتقاتلوننی؟ علی حقٍّ تركته؟ أم علی شریعة بدّلتها؟ أم علی سنّة غیّرتها؟ فقالوا: نقاتلك بغضاً منّا لأبیك وما فعل بأشیاخنا یوم بدر وحنین. فلما سمع كلامهم بكی، وجعل یحمل علیهم وجعلوا ینهزمون من بین یدیه كأنهم الجراد المنتشر، ثم رجع إلی مركزه وهو یقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلی العظیم.
وهو فی تلك الحالة یطلب شربة من الماء وكان یقول:
أنــــا ابن علیّ الطهر من آل هاشمٍ
كفانی بهـــــذا مفــــخراً حین افخر
وجــدی رسول الله ا كرم من مشی
ونحن سراج الله فی الأرض نزهر
وفاطـــــم أمـــــــی من سلالة أحمد
وعمّــــی یدعی ذا الجناحین جعفر
وفیـــــنا كـــــــتاب الله أنزل صادقاً
وفیــنا الهدی والوحی بالخیر یذكر
فنــــــحن أمــــــان الله للناس كلّهم
نسرّ بهذا فـــــی الأنــــام ونـــجهر
ونحـــن ولاة الحوض نسقی ولاتنا
بكاس رســــــول الله ما لیس ینكر
وشیعـــــتنا فــی الحشر أكرم شیعة
ومبغــــــضنا یــــوم القیامة یخسر
فطـــــوبی لعــــــبدٍ زارنا بعد موتنا
بجـــــنة عــــــدن صـفوها لا یكدّر
فصاح عمر بن سعد: الویل لكم! أتدرون لمن تقاتلون؟ هذا ابن الأنزع البطین هذا ابن قتال العرب، احملوا علیه من كل جانب. فحملوا علیه فحمل علیهم كاللیث المغضب، فجعل لا یلحق منهم أحداً إلا بعجهُ بالسیف فقتله، حتی قتل منهم مقتلة عظیمة، وفی خبر أنه قتل ألفاً وتسعمائة وخمسین رجلاً، فحالوا بینه وبین رحله، فصاح: ویحكم یا شیعة آل أبی سفیان إن لم یكن لكم دین وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً فی دنیاكم، وارجعوا إلی أحسابكم إن كنتم عربا.
فناداه شمر: ما تقول یابن فاطمة؟
قال أقولك أنا الذی أقاتلكم وأنتم تقاتلوننی، والنساء لیس علیهن جناح، فامنعو عتاتكم وجهّالكم عن التعرّض لحرمی ما دمت حیّا.
فصاح شمر بأصحابه: تنحّوا عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه، فلعمری هو كفو كریم، فتراجع القوم.
فنزلت الملائكة من السماء لنصرته فلم یأذن لهم بشیء، ثم التفت یمیناً وشمالاً فلم یر أحداً من أصحابه إلا من صافح التراب جبینه وقطع الحمام أنینه، فخاطبهم وعاتبهم فما سمع منهم جواباً.
لما رأی السبط أصحاب الوفا قـتلوا
نــادی أبا الفضل أین الفارس البطل
وأیــــن من دونی الأرواح قد بـذلوا
بالأمس كانوا معی والیوم قد رحلوا
وخلّفوا فی سوید القلب نیرانا
ثم نادی برفیع صوته: هل من ناصر ینصرنی، هل من معین یعیننی؟ فخرج زین العابدین وهو مریض لا یتمكّن أن یحمل سیفه، وأمّ كلثوم تنادی خلفه ارجع.
فقال: یا عمّتاه ذرینی أقاتل بین یدی ابن رسول الله، فقال الحسین: خذیه، لئلا تبقی الأرض خالیة من نسل آل محمد.
وفی روایة جاء الحسین واحتمله وأتی به إلی الخیمة ثمّ قال: ولدی ما ترید أن تصنع؟ قال: أبه إن نداءك قطع نیاط قلبی، وأرید أن أفدیك بروحی، فقال الحسین: یا ولدی أنت مریض، لیس علیك جهاد، وأنت الحجّة والإمام علی شیعتی وأنت أبو الأئمة، وكافل الأیتام والأرامل، وأنت الرادّ لحرمی إلی المدینة.
فقال زین العابدین: أبتاه تقتل وأنا أنظر إلیك؟ لیت الموت أعدمنی الحیاة، روحی لروحك الفداء، نفسی لنفسك الوقاء.
ثم ذهب الحسین إلی خیام الطاهرات من آل رسول الله، ونادی: یا سكینة ویا فاطمة ویا زینب ویا أم كلثوم: علیكنّ منی السلام فهذا آخر الاجتماع، وقد قرب منكنّ الافتجاع.
فعلتْ أصواتهن بالبكاء وصحْن: الوداع الوداع، الفراق الفراق، فجاءته عزیزته سكینة وقالت: یا ابة استسلمت للموت؟ فإلی من اتّكل؟ قال: یا نور عینی كیف لا یستسلم للموت من لا ناصر له ولا معین. قالت: ابه ردّنا إلی حرم جدّنا؟ فقال الحسین: هیهات، لو ترك القطا لغفا ونام.
فبكت سكینة فأخذها وضمّها إلی صدره ومسح الدموع عن عینها وهو یقول:
سیطول بعدی یا سكینة فاعلمی
منك البـــكاء إذا الحِمام دهانی
لا تــــحرقی قلبی بدمعك حسرة
مادام مــنیّ الروح فی جثمانی
فإذا قــــتلت فـــأنت أولی بالذی
تــــــأتینه یا خـــــیرة النـسوان
ثم إن الحسین دعاهن بأجمعهن، وقال لهن: استعدوا للبلاء واعلموا أن الله حافظكم وحامیكم، وسینجیكم من شر الأعداء ویجعل عاقبة أمركم إلی خیر، ویعذب أعادیكم بأنواع العذاب، ویعوّضكم عن هذه البلیّة بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ینقص قدركم.
ثم أمرهن بلبس أزرهن ومقانعهن، فسألته زینب عن ذلك، فقال: كأنّی أراكم عن قریب كالإماء والعبید یسوقونكم أمام الركاب، ویسومونكم سوء العذاب، فنادت زینب: وا جدّاه وا قلّة ناصراه، فشقّت ثوبها ونتفت شعرها ولطمت علی وجهها، فقال الحسین لها: مهلاً یا بنت المرتضی إن البكاء طویل، فاراد الحسین أن یخرج من الخیمة فتعلّقت به زینب، وقالت: مهلاً یا أخی توقّف حتی أتزوّ منك ومن نظری إلیك وأودّعك وداع مفارق لا تلاقی بعده.
فجعلت تقبّل یدیه ورجلیه، وأحطن به سائر النسوة یقبّلن یدیه ورجلیه، فسكّتهن الحسین، وردّهن إلی الفسطاط.
ثم دعا بأخته زینب وصبّرها وأمرّ یده علی صدرها وسكّنها من الجزع، وذكر لها ما أعدّ الله للصابرین، فقالت له: یابن أمی طب نفساً وقرّ عیناً فإنك تجدنی كما تحب وترضی. فقال الحسین: أخیّة إیتینی بثوب عتیق لا یرغب فیه أحد، أجعله تحت ثیابی لئلا أجرّد بعد قتلی، فإنی مقتول مسلوب، فارتفعت أصواتهنّ بالبكاء، فأتی بتبّان، وهو ثوب قصیر ضیّق، فقال: لا، ذاك لباس من ضربت علیه الذلّة، فأخذ ثوباً خَلِقاً فخرقه وجعله تحت ثیابه فلما قتل جرّدوه منه.
ثم نادی الحسین هل من یقدم إلیّ جوادی؟ فسمعت زینب فخرجت وأخذت بعنان الجواد وأقبلت إلیه وهی تقول: لمن تنادی وقد قرحت فؤادی.
فعاد الحسین إلی القوم فحمل علیهم وكانت الرجال تشدّ علیه فیشدّ علیها، فتنكشف عنه انكشاف المعزی إذا حلّ فیها الذئب، حمل علی المیمنة وهو یقول:
المـــــوت خیر من ركوب العار
والعــــار أولی من دخول النار
وحمل علی المیسرة وهو یقول:
أنــــــا الحســــــین بـــــن علی
آلیـــــــت أن لا أنـــــــثــــــــنی
أحــــــمی عــــــیالاتُ أبــــــــی
أمضــــــی عـــــلی دیــن النبی
فجعلوا یرشقونه بالسهام والنبال حتی صار درعه كالقنفذ، فوقف لیستریح ساعة وقد ضعف عن القتال فبینما هو واقف إذ أتاه حجرٌ فوقع علی جبهته، فاخذ الثوب لیمسح الدم عن عینه فأتاه سهم محدّد مسموم له ثلاث شعب فوقع السهم فی صدره علی قلبه، فقال الحسین: بسم الله وبالله وفی سبیل الله وعلی ملّة رسول الله، ثم رفع رأسه إلی السماء وقال: الهی إنك تعلم أنّهم یقتلون رجلاً لیس علی وجه الأرض ابن نبیّ غیره.
ثم أخذ السهم وأخرجه من قفاه فانبعث الدم كالمیزاب، فوضع یده علی الجرح فلما امتلأت دماً رمی به إلی السماء، ثم وضع یده علی الجرح ثانیاً فلما امتلأت لطّخ به رأسه ولحیته وقال هكذا أكون حتی ألقی جدّی رسول الله وأنا مخضوب بدمی أقول: یا رسول الله قتلنی فلان وفلان.
فعند ذلك طعنه صالح بن وهب علی خاصرته طعنة، فسقط عن فرسه علی خده الأیمن وهو یقول: بسم الله وبالله وفی سبیل الله وعلی ملّة رسول الله، ثم جعل یجمع التراب تحت یده كالوسادة فیضع خدّه علیها ثم یناجی ربّه قائلاً:
صبراً علی قضائك وبلائك، یا رب لا معبود سواك، ثم وثب لیقوم للقتال فلم یقدر، فبكی بكاءاً شدیداً، فنادی: وا جدّاه وا محمّداه، وا أبتاه وا علیّاه، وا غربتاه وا قلّة ناصراه، ءأقتل مظلوماً وجدّی محمد المصطفی؟ ءأذبح عطشانا وأبی علیّ المرتضی؟ ءأترك مهتوكاً وأمی فاطمة الزهراء؟
ثم خرجت زینب من الفسطاط وهی تنادی: وا أخاه، وا سیداه، وا أهل بیتاه، لیت السماء أطبقت علی الأرض، لیت الجبال تدكدكت علی السهل، الیوم مات جدّی الیوم ماتت أمی.
ثم نادت: ویحك یابن سعد أیقتل أبو بعد الله وأنت تنظر إلیه؟ فلم یجبها عمرو بشیء، فنادت: ویحكم أما فیكم مسلم؟ فلم یجبها أحد.
ثم انحدرت نحو المعركة وهی تقوم مرّة وتقعد أخری، وتحثو التراب علی راسها حتی وصلت إلی الحسین فطرحت نفسها علی جسده وجعلت تقول:
ءأنت الحسین أخی؟
ءأنت ابن أمی؟
ءأنت حمانا؟
ءأنت رجانا؟
والحسین لا یرد علیها جواباً، لأنه كان مشغولاً بنفسه، فقالت: أخی بحق جدّی إلا ما كلّمتنی، وبحق أبی أمیر المؤمنین إلا ما خاطبتنی، یا حشاش مهجتی كلّمنی یا شقیق روحی، ففتح الحسین عینه. فعند ذلك جلست زینب خلفه وأجلسته حاضنة له بصدرها، فالتفت إلیها الحسین وقال: أخیّة كسرتِ قلبی وزِدتنی كرباً فوق كربی، فبالله علیك إلا ما سكتِ وسكنتِ.
فصاحت: وا ویلاه یابن أمی كیف اسكن واسكت وأنت بهذه الحالة تعالج سكرات الموت؟
روحی لروحك الفداء، نفسی لنفسك الوقاء
فخرج عبدالله بن الحسن وهو غلامٌ لم یراهق من عند النساء، فشدّ حتی وقف إلی جنب عمّه الحسین، فلحقته زینب بنت علی لتحسبه، فقال لها الحسین: احبسیه یا أختی فابی وامتنع علیها امتناعاً شدیداً وقال: والله لا أفارق عمی، واهوی أبحر بن كعب إلی الحسین بالسیف فقال له الغلام: ویلك یابن الخبیثة أتقتل عمّی فضربه أبحر بالسیف فأتقاه الغلام بیده وأطنّها الی الجلد فإذا هی معلّقة، ونادی الغلام: یا عمّاه یا أبتاه فأخذه الحسین فضمّه إلیه وقال: یابن أخی صبراً علی ما نزل بك واحتسب فی ذلك الأجر فإن الله یلحقك بآبائك الصالحین فرماه حرملة بسهم فذبحه فی حجر عمّه الحسین.
ثم صاح عمر بن سعد بأصحابه: ویلكم إنزلوا وحزّوا رأسه، وقال لرجل: ویلك إنزل إلی الحسین وأرحه. فأقبل عمرو بن الحجاج لیقتل الحسین فلمّا دنی ونظر إلی عینیه ولّی راجعاً مدبراً، فسألوه عن رجوعه؟ قال: نظرتُ إلی عینیه كأنهما عینا رسول الله. واقبل شبثُ بن ربعی فارتعدت یده ورمی السیف هارباً، فعند ذلك أقبل شمرٌ وجلس علی صدر الحسین ووقعت المصیبة الكبری التی یعجز القلم عن وصفها.
یـــــا قـــــــتیلاً قوّض الدهر به
عمـــــد الـــدین وأعلام الهدی
قتــــلوه بــــعد عـــــلم مــــنهم
إنـــــه خــــامس أصحاب الكسا
وا صــــریعاً عـــالج الموت بلا
شدّ لحیــــیـــــــن ولا مـــدّ ردا
غـــــسّلوه بـــــدم الطـــعن وما
كفّـــــنوه غـــــیر بوغاء الثری
ألا لعنة الله علی القوم الظالمین
كربلاء المقدسة ـ العراق
كتبه محمد كاظم القزوینی
وهو فی تلك الحالة یطلب شربة من الماء وكان یقول:
أنــــا ابن علیّ الطهر من آل هاشمٍ
كفانی بهـــــذا مفــــخراً حین افخر
وجــدی رسول الله ا كرم من مشی
ونحن سراج الله فی الأرض نزهر
وفاطـــــم أمـــــــی من سلالة أحمد
وعمّــــی یدعی ذا الجناحین جعفر
وفیـــــنا كـــــــتاب الله أنزل صادقاً
وفیــنا الهدی والوحی بالخیر یذكر
فنــــــحن أمــــــان الله للناس كلّهم
نسرّ بهذا فـــــی الأنــــام ونـــجهر
ونحـــن ولاة الحوض نسقی ولاتنا
بكاس رســــــول الله ما لیس ینكر
وشیعـــــتنا فــی الحشر أكرم شیعة
ومبغــــــضنا یــــوم القیامة یخسر
فطـــــوبی لعــــــبدٍ زارنا بعد موتنا
بجـــــنة عــــــدن صـفوها لا یكدّر
فصاح عمر بن سعد: الویل لكم! أتدرون لمن تقاتلون؟ هذا ابن الأنزع البطین هذا ابن قتال العرب، احملوا علیه من كل جانب. فحملوا علیه فحمل علیهم كاللیث المغضب، فجعل لا یلحق منهم أحداً إلا بعجهُ بالسیف فقتله، حتی قتل منهم مقتلة عظیمة، وفی خبر أنه قتل ألفاً وتسعمائة وخمسین رجلاً، فحالوا بینه وبین رحله، فصاح: ویحكم یا شیعة آل أبی سفیان إن لم یكن لكم دین وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً فی دنیاكم، وارجعوا إلی أحسابكم إن كنتم عربا.
فناداه شمر: ما تقول یابن فاطمة؟
قال أقولك أنا الذی أقاتلكم وأنتم تقاتلوننی، والنساء لیس علیهن جناح، فامنعو عتاتكم وجهّالكم عن التعرّض لحرمی ما دمت حیّا.
فصاح شمر بأصحابه: تنحّوا عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه، فلعمری هو كفو كریم، فتراجع القوم.
فنزلت الملائكة من السماء لنصرته فلم یأذن لهم بشیء، ثم التفت یمیناً وشمالاً فلم یر أحداً من أصحابه إلا من صافح التراب جبینه وقطع الحمام أنینه، فخاطبهم وعاتبهم فما سمع منهم جواباً.
لما رأی السبط أصحاب الوفا قـتلوا
نــادی أبا الفضل أین الفارس البطل
وأیــــن من دونی الأرواح قد بـذلوا
بالأمس كانوا معی والیوم قد رحلوا
وخلّفوا فی سوید القلب نیرانا
ثم نادی برفیع صوته: هل من ناصر ینصرنی، هل من معین یعیننی؟ فخرج زین العابدین وهو مریض لا یتمكّن أن یحمل سیفه، وأمّ كلثوم تنادی خلفه ارجع.
فقال: یا عمّتاه ذرینی أقاتل بین یدی ابن رسول الله، فقال الحسین: خذیه، لئلا تبقی الأرض خالیة من نسل آل محمد.
وفی روایة جاء الحسین واحتمله وأتی به إلی الخیمة ثمّ قال: ولدی ما ترید أن تصنع؟ قال: أبه إن نداءك قطع نیاط قلبی، وأرید أن أفدیك بروحی، فقال الحسین: یا ولدی أنت مریض، لیس علیك جهاد، وأنت الحجّة والإمام علی شیعتی وأنت أبو الأئمة، وكافل الأیتام والأرامل، وأنت الرادّ لحرمی إلی المدینة.
فقال زین العابدین: أبتاه تقتل وأنا أنظر إلیك؟ لیت الموت أعدمنی الحیاة، روحی لروحك الفداء، نفسی لنفسك الوقاء.
ثم ذهب الحسین إلی خیام الطاهرات من آل رسول الله، ونادی: یا سكینة ویا فاطمة ویا زینب ویا أم كلثوم: علیكنّ منی السلام فهذا آخر الاجتماع، وقد قرب منكنّ الافتجاع.
فعلتْ أصواتهن بالبكاء وصحْن: الوداع الوداع، الفراق الفراق، فجاءته عزیزته سكینة وقالت: یا ابة استسلمت للموت؟ فإلی من اتّكل؟ قال: یا نور عینی كیف لا یستسلم للموت من لا ناصر له ولا معین. قالت: ابه ردّنا إلی حرم جدّنا؟ فقال الحسین: هیهات، لو ترك القطا لغفا ونام.
فبكت سكینة فأخذها وضمّها إلی صدره ومسح الدموع عن عینها وهو یقول:
سیطول بعدی یا سكینة فاعلمی
منك البـــكاء إذا الحِمام دهانی
لا تــــحرقی قلبی بدمعك حسرة
مادام مــنیّ الروح فی جثمانی
فإذا قــــتلت فـــأنت أولی بالذی
تــــــأتینه یا خـــــیرة النـسوان
ثم إن الحسین دعاهن بأجمعهن، وقال لهن: استعدوا للبلاء واعلموا أن الله حافظكم وحامیكم، وسینجیكم من شر الأعداء ویجعل عاقبة أمركم إلی خیر، ویعذب أعادیكم بأنواع العذاب، ویعوّضكم عن هذه البلیّة بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ینقص قدركم.
ثم أمرهن بلبس أزرهن ومقانعهن، فسألته زینب عن ذلك، فقال: كأنّی أراكم عن قریب كالإماء والعبید یسوقونكم أمام الركاب، ویسومونكم سوء العذاب، فنادت زینب: وا جدّاه وا قلّة ناصراه، فشقّت ثوبها ونتفت شعرها ولطمت علی وجهها، فقال الحسین لها: مهلاً یا بنت المرتضی إن البكاء طویل، فاراد الحسین أن یخرج من الخیمة فتعلّقت به زینب، وقالت: مهلاً یا أخی توقّف حتی أتزوّ منك ومن نظری إلیك وأودّعك وداع مفارق لا تلاقی بعده.
فجعلت تقبّل یدیه ورجلیه، وأحطن به سائر النسوة یقبّلن یدیه ورجلیه، فسكّتهن الحسین، وردّهن إلی الفسطاط.
ثم دعا بأخته زینب وصبّرها وأمرّ یده علی صدرها وسكّنها من الجزع، وذكر لها ما أعدّ الله للصابرین، فقالت له: یابن أمی طب نفساً وقرّ عیناً فإنك تجدنی كما تحب وترضی. فقال الحسین: أخیّة إیتینی بثوب عتیق لا یرغب فیه أحد، أجعله تحت ثیابی لئلا أجرّد بعد قتلی، فإنی مقتول مسلوب، فارتفعت أصواتهنّ بالبكاء، فأتی بتبّان، وهو ثوب قصیر ضیّق، فقال: لا، ذاك لباس من ضربت علیه الذلّة، فأخذ ثوباً خَلِقاً فخرقه وجعله تحت ثیابه فلما قتل جرّدوه منه.
ثم نادی الحسین هل من یقدم إلیّ جوادی؟ فسمعت زینب فخرجت وأخذت بعنان الجواد وأقبلت إلیه وهی تقول: لمن تنادی وقد قرحت فؤادی.
فعاد الحسین إلی القوم فحمل علیهم وكانت الرجال تشدّ علیه فیشدّ علیها، فتنكشف عنه انكشاف المعزی إذا حلّ فیها الذئب، حمل علی المیمنة وهو یقول:
المـــــوت خیر من ركوب العار
والعــــار أولی من دخول النار
وحمل علی المیسرة وهو یقول:
أنــــــا الحســــــین بـــــن علی
آلیـــــــت أن لا أنـــــــثــــــــنی
أحــــــمی عــــــیالاتُ أبــــــــی
أمضــــــی عـــــلی دیــن النبی
فجعلوا یرشقونه بالسهام والنبال حتی صار درعه كالقنفذ، فوقف لیستریح ساعة وقد ضعف عن القتال فبینما هو واقف إذ أتاه حجرٌ فوقع علی جبهته، فاخذ الثوب لیمسح الدم عن عینه فأتاه سهم محدّد مسموم له ثلاث شعب فوقع السهم فی صدره علی قلبه، فقال الحسین: بسم الله وبالله وفی سبیل الله وعلی ملّة رسول الله، ثم رفع رأسه إلی السماء وقال: الهی إنك تعلم أنّهم یقتلون رجلاً لیس علی وجه الأرض ابن نبیّ غیره.
ثم أخذ السهم وأخرجه من قفاه فانبعث الدم كالمیزاب، فوضع یده علی الجرح فلما امتلأت دماً رمی به إلی السماء، ثم وضع یده علی الجرح ثانیاً فلما امتلأت لطّخ به رأسه ولحیته وقال هكذا أكون حتی ألقی جدّی رسول الله وأنا مخضوب بدمی أقول: یا رسول الله قتلنی فلان وفلان.
فعند ذلك طعنه صالح بن وهب علی خاصرته طعنة، فسقط عن فرسه علی خده الأیمن وهو یقول: بسم الله وبالله وفی سبیل الله وعلی ملّة رسول الله، ثم جعل یجمع التراب تحت یده كالوسادة فیضع خدّه علیها ثم یناجی ربّه قائلاً:
صبراً علی قضائك وبلائك، یا رب لا معبود سواك، ثم وثب لیقوم للقتال فلم یقدر، فبكی بكاءاً شدیداً، فنادی: وا جدّاه وا محمّداه، وا أبتاه وا علیّاه، وا غربتاه وا قلّة ناصراه، ءأقتل مظلوماً وجدّی محمد المصطفی؟ ءأذبح عطشانا وأبی علیّ المرتضی؟ ءأترك مهتوكاً وأمی فاطمة الزهراء؟
ثم خرجت زینب من الفسطاط وهی تنادی: وا أخاه، وا سیداه، وا أهل بیتاه، لیت السماء أطبقت علی الأرض، لیت الجبال تدكدكت علی السهل، الیوم مات جدّی الیوم ماتت أمی.
ثم نادت: ویحك یابن سعد أیقتل أبو بعد الله وأنت تنظر إلیه؟ فلم یجبها عمرو بشیء، فنادت: ویحكم أما فیكم مسلم؟ فلم یجبها أحد.
ثم انحدرت نحو المعركة وهی تقوم مرّة وتقعد أخری، وتحثو التراب علی راسها حتی وصلت إلی الحسین فطرحت نفسها علی جسده وجعلت تقول:
ءأنت الحسین أخی؟
ءأنت ابن أمی؟
ءأنت حمانا؟
ءأنت رجانا؟
والحسین لا یرد علیها جواباً، لأنه كان مشغولاً بنفسه، فقالت: أخی بحق جدّی إلا ما كلّمتنی، وبحق أبی أمیر المؤمنین إلا ما خاطبتنی، یا حشاش مهجتی كلّمنی یا شقیق روحی، ففتح الحسین عینه. فعند ذلك جلست زینب خلفه وأجلسته حاضنة له بصدرها، فالتفت إلیها الحسین وقال: أخیّة كسرتِ قلبی وزِدتنی كرباً فوق كربی، فبالله علیك إلا ما سكتِ وسكنتِ.
فصاحت: وا ویلاه یابن أمی كیف اسكن واسكت وأنت بهذه الحالة تعالج سكرات الموت؟
روحی لروحك الفداء، نفسی لنفسك الوقاء
فخرج عبدالله بن الحسن وهو غلامٌ لم یراهق من عند النساء، فشدّ حتی وقف إلی جنب عمّه الحسین، فلحقته زینب بنت علی لتحسبه، فقال لها الحسین: احبسیه یا أختی فابی وامتنع علیها امتناعاً شدیداً وقال: والله لا أفارق عمی، واهوی أبحر بن كعب إلی الحسین بالسیف فقال له الغلام: ویلك یابن الخبیثة أتقتل عمّی فضربه أبحر بالسیف فأتقاه الغلام بیده وأطنّها الی الجلد فإذا هی معلّقة، ونادی الغلام: یا عمّاه یا أبتاه فأخذه الحسین فضمّه إلیه وقال: یابن أخی صبراً علی ما نزل بك واحتسب فی ذلك الأجر فإن الله یلحقك بآبائك الصالحین فرماه حرملة بسهم فذبحه فی حجر عمّه الحسین.
ثم صاح عمر بن سعد بأصحابه: ویلكم إنزلوا وحزّوا رأسه، وقال لرجل: ویلك إنزل إلی الحسین وأرحه. فأقبل عمرو بن الحجاج لیقتل الحسین فلمّا دنی ونظر إلی عینیه ولّی راجعاً مدبراً، فسألوه عن رجوعه؟ قال: نظرتُ إلی عینیه كأنهما عینا رسول الله. واقبل شبثُ بن ربعی فارتعدت یده ورمی السیف هارباً، فعند ذلك أقبل شمرٌ وجلس علی صدر الحسین ووقعت المصیبة الكبری التی یعجز القلم عن وصفها.
یـــــا قـــــــتیلاً قوّض الدهر به
عمـــــد الـــدین وأعلام الهدی
قتــــلوه بــــعد عـــــلم مــــنهم
إنـــــه خــــامس أصحاب الكسا
وا صــــریعاً عـــالج الموت بلا
شدّ لحیــــیـــــــن ولا مـــدّ ردا
غـــــسّلوه بـــــدم الطـــعن وما
كفّـــــنوه غـــــیر بوغاء الثری
ألا لعنة الله علی القوم الظالمین
كربلاء المقدسة ـ العراق
كتبه محمد كاظم القزوینی